محمد بلال أشمل
قراءة في أوراق الحرب الأهلية الإسبانية (2)
"المنطقة الحمراء" والوعد بـ"إسبانيا جديدة"
من المفروض أن تكون الحرب الأهلية "خفيفة الوطئ" على أصحابها إذا كان لا بد من أن يتحاربوا. ولكنها عمليا وواقعيا غير كذلك، ولا يمكن أن تكون كذلك. إنها حرب "شديدة الوطئ" على أهلها، وأحيانا حتـّى على جيرانهم.(*) و ما تنطوي عليه من تناقض (بين "الحرب" و "الأهل") لا يدع مجالا للتردد في أنها غير أهلية، بل حرب بين طرفين لا قرابة بينهما؛ لأن الأهل إذا نهضوا إلى حرب، فمع غرباء أعداء لهم أرادوا بهم شرا فردوهم عنهم وحموا عن بغيهم ما لهم من مال وسيادة وكرامة. أما الأهل، فيتحالفون معهم حتـّى يجدوهم في جانبهم ليشدوا من عضدهم وقت الحاجة في الحرب مع الغرباء، أو إذا ألمت بهم نكبة من نكبات الطبيعة.
ولكن مجرى الرغبات وتدفق الأهواء الإنسانية هو غير خيرية المثال واستقامة الأخلاق. وهذا التاريخ نفسه يشهد كم من الأهل قاموا إلى السلاح، ثم فضوا نزاعاتهم بقوته، فكان بينهم الغالب والمغلوب. ولهذا فلا وجود لما يسمى بـ "حرب أهلية" إلا بداع استكبار حدوثها، واستفظاع أهوالها. إنها، على العكس من ذلك، حرب "غير أهلية"؛ لأنها تقوم بين أناس أصبحوا غرباء على بعضهم البعض في "بيتهم" ساعة أمسكوا عن الحوار، وأطلقوا العنان للسلاح. إن الـّذي يحكم "أهل البيت" الواحد هو الحب لا الحرب. ولكن ما من حرب أهلية ساد الحب بين أهل بيتها، بل عصفت بهم الكراهية، وشطرهم الحقد شطرين أو أكثر. وهذا شأن كل حرب أهلية تقوم بين الأهل، وداخل بيتهم، ومنها "الحرب الأهلية الغير الأهلية" guerra civil incivil (أو الحرب الأهلية الغير المتحضرة) كما يسميها "أونامونو" Unamuno (1864-1936) و الـّتي قامت بين الإسبان والإسبان، وجرت وقائعها داخل إسبانيا، واشتعل فتيلها من مستعمراتها في المغرب. إنها حرب غير أهلية لأنها قامت بين أعداء كفوا أن يكونوا أهلا متى قاموا إلى السلاح ليحلوا "مشكلة لفظية": من الحق إلى جانبه؟ وأيهم يمتلك المشروعية إلى صفه؟ فانتهى بهم الأمر إلى مغلوبين وغالبين، مهزومين ومنتصرين. لقد حلوا مشكلتهم تلك بكثير من التعصب وبقليل من التسامح؛ فانساقوا إلى حرب من أشرس الحروب وأقساها إنسانيا وبشريا وفكريا في تاريخ البشرية، لم يشفوا من جراحها إلى الآن. وما زال منهم من يطالب بـ"الإنصاف"، وغيرهم ينادي بالحفاظ على "الذاكرة"، والآخرون يتنادون بكشف "الحقيقة" قبل أي شئ آخر. ولهذا سيظل موضوعها، على المستوى الشخصي والإنساني، منبعا لكثير من الذكريات والأحاسيس والأفكار والرؤى والمغازي والعبر، ما طال الزمن بذكرها، وردد التاريخ صداها؛ سواء لأهلها من الإسبان، أو لغيرهم ممن شهدوا معهم بعض فصولها، أو طعموا طائفة من ثمارها، أو تهيأت لهم أسباب الاطلاع على الأبحاث الـّتي تمت على هديها، أو الأدب الـّذي كتب بوحيها. وهو، بالمناسبة، كثير يضاهي ما ُكتب حول غيره من الأحداث العظام الـّتي شهدتها إسبانيا، فطبعت ماضيها القريب، وأثرت في حاضرها الراهن، وأرخت بظلالها على مستقبلها المنظور.
من هذا الأدب الكثير، الـّذي تمخض عن الحرب "الغير الأهلية" الإسبانية، رواية "المنطقة الحمراء" Zona roja لـ"فيرناندو فيزكايينو كاساس" Fe
ando Vezcaíno Casas . والنسخة الـّتي بين يدي الآن هي النسخة الصادرة في طبعتها الثانية ببرسلونة عن دار "بلانيتا" Planeta عام 1986 ضمن سلسلتها "فابولا" Colección Fábula.
تدخل "المنطقة الحمراء" صميم الحرب عند أحد طرفيها، والمتعلق بالجانب الجمهوري، أو ما دأب على تسميته مجازا بـ"المنطقة الحمراء"، أو باطلا بـ "الشيوعية" كما هو الشأن لدى أدبيات الجانب الآخر؛ الجانب الـّذي سمى نفسه ادعاء بـ"إسبانيا الوطنية"، فصار يزعم أنه الوحيد المدافع عن "الوحدة الوطنية"، و المنافح عن "الدين المسيحي"، و المحافظ على "القدر الإسباني الموحد"؛ استثمارا للحمية الدينية، واستعداء للوجدان الكاثوليكي على الجمهوريين. "المنطقة الحمراء" رواية تصور حياة بعض المراهقين الذين أصبحوا رجالا في مدينة إسبانية هي بلنسية، وفي "حرب أهلية"-يا للتناقض- هي "الحرب الأهلية الإسبانية" لأعوام 1936-1939، وذاقوا فيها مرارة الحرب، وخبروا فيها ألوان الوجود الإنساني، من حب وكراهية وخيبة أمل وخذلان وجوع ومكر. الشخصية الأساسية في الرواية هو "الراوي" نفسه، الفتى "إدواردو" Eduardo -والرواية بكيفية من الكيفيات سيرة محدودة لحياته وحياة من يعرفهم من قرابته أو من معارفه من مبتدأ الحرب إلى مغادرة أسرته إسبانيا إلى فرنسا بحرا عن طريق أليكانتي.
أكيد أن الرواية تمتلئ بمعان متعددة، ومن الممكن قراءتها قراءات مختلفة، حسب زوايا النظر وطبيعة المقاصد الـّتي يتخيرها القارئ. وحيث أن اهتمامي في هذه الرواية، وعموم النصوص المتعلقة بالحرب الأهلية الإسبانية، ينصب على استخلاص السمات العامة للفكر الإسباني في منعطف حاسم كالذي دخلت فيه إسبانيا عام 36 وما بعده، فإني سأركز على جملة أمور أهمها على الأقل أمران، الأمر الأول هو فكرة "التسامح"، والأمر الثاني هو فكرة "الانسجام" أو "التواؤم". لم هذا الاختيار؟ الجواب هو أن فكرة "التسامح" و "الانسجام" من الأفكار الفلسفية الخطيرة الـّتي وجدت لها في الأرض السياسية الإسبانية ألوانا من التطبيق، إما بالسلب في حالة التنابذ، أو بالإيجاب في حالة التسامح. وعليهما ستبنى كثير من النظريات التفسيرية لـ"مشكلة إسبانيا" في صيغتها الجديدة لدى عديد من المفكرين والفلاسفة أمثال " خوسي لويس أرانجورين" J. Luis Aranguren (1909-1996)، و "خوليان مارياس" Julian Marías (1914- ). إنهما الفضيلتان اللتان غابتا عن المشهد الإسباني فحضرت فيه "رذيلتان" هما التعصب والتنابذ، فغلبت الثانية الأولى، واستقر لها الحال حتـّى منتصف السبعينات. ومع تأكيدي على هذا الجانب، إلا أني أحب أن أذكر، إذا كان لا بد من ذكر شئ عن الجانب الفني في القول الروائي من باحث يعنى بالبنى الفكرية أكثر من عنايته بالبنى الفنية، أن هذه الرواية أفلحت في شد مركز حواسي، وسيطرت على كامل وجداني بتواتر أحداثها "المنسابة" في تناثرها إلى نهاياتها المعلومة؛ والتي ليست، في الحقيقة، إلا بداية لوعد جديد بحياة جديدة، قوامها "التسامح" و"التواؤم" فأين موضعهما إذن؟
تكشف الرواية عن كثير من الحالات الـّتي يرين فيها الانسجام على التنافر، ويتغلب فيها التسامح على التعصب. يقع ذلك في أكثر من مشهد رغم أن الحرب أصلا كانت بين متنافرين في الظاهر، منسجمين في الباطن، ولكن كلاهما اختارا جانب "التعصب"، وسعيا إلى حسم "تنافرهما" بوساطة العنف. وعلى سبيل المثال، حالة ذلك النقابي القديم والجمهوري الصلب السيد "لورينتي" Lorente المنتسب إلى "الحزب الجمهوري المستقل"؛ فقد قدم هذا الرجل المساعدة لأب الراوي الفرانكاوي الهوى، والفاشي النزعة، مرتين، المرة الأولى من أجل الحصول على جواز السفر له ولأسرته- ومنهم الراوي- قصد مغادرة إسبانيا إلى فرنسا، والمرة الثانية حين سعى لأجل فك القيود، التي وضعها "أوريتيا" Urrutia لصالح النقابة الثورية، عن متجره. كان هذا الجمهوري يعطي الدليل على أن البسطاء لا ينبغي أن يِِِؤِخذوا بجريرة غيرهم من "المعقدين" من الساسة والمتسيسين، وأن "المثال" الـّذي يسعون إليه في دنيا الواقع، ربما حققه هؤلاء البسطاء بكدهم وشقائهم في صمت وتفان في العمل، ومن ثم فلا يليقن بمن يدعو إلى قيم العدالة والمساواة، ومنها أحزاب "الجبهة الشعبية" يومئذ، أن يشتط في تطبيق قراراته عليهم، لأنهم لم يسلبوا مال أحد، ولم يظلموا أحدا، بل الراجح أنهم هم الذين ظـُلموا سلب مالهم بالباطل.
المثال الآخر نجده لدى ذلك الطبيب الشيوعي الـّذي كان يزور أسرة الراوي ويقدم لها خدماته الطبية؛ فقد "زكى" "دون دومينغو" Don Domingo أب الراوي حين وقع له شهادة حسن السيرة و السلوك، وكتم عن السلطات الجمهورية حقيقة انحيازه إلى القوات المتمردة عليها، وولائه لها، ونصحه بإخفاء كل مظاهر التدين من بيته، وصرف عنه زيارة غير متوقعة لبعض الكتائب المتعطشين لسفك الدماء. وفي ظني، كان هذا الطبيب بصنيعه، كمن يدرك أن السيد "قلعة أيوب" ليس يميل إلا لما يعتقده صدقا وحقا من دين مسيحي، وعقيدة كاثوليكية، واحتفال طقوسي بالأقانيم والمقدسات، وأن انحيازه إلى الخنرال "مولا" Mola (1887- 1937) أو الخنرال "فرانكو" Franco (1892-1975)، ليس إلا انحيازا إلى أمل بانعتاق إسبانيا من نير أناس لا يقيمون للدين اعتبارا؛ فقد رآهم يقتلون رجال الدين، وشهدهم يحرقون فوق رؤوسهم الكنائس، وعاينهم وهم يدمرون تحت أرجلهم الأديرة والخلوات، ومن ثم فالقوات الوطنية هي قوات مؤمنة ومسيحية جاءت تخلص إسبانيا من تسلط "الروس الملاحدة"، وأذنابهم من "الألوية الحمراء" كما كانت تحرص الدعاية الحربية على تفصيله يومها(**). وإذا كان هناك من مسؤول عن حيف "التدين" فهو رجال الدين الذين يكتنزون الذهب والفضة، ويعدون الناس بالخلاص في الحياة الآخرة، ويهونون عليهم سوء العيش في الحياة الدنيا. فلماذا إذن لا يزكي الرجل في سيرته وهي سيرة أسلافه وأجداده، ولا يوقع له وثيقة يبلغ بها مأمنه فيتخذها وسيلة للعيش في مكان آخر لا يؤذي فيه أحدا ولا يؤذيه أحد؟
المثال الثالث مع ذلك القريب المسمى "بيبي بويغ" Pepe Puig ذلك المثقف الجمهوري الـّذي بذل نفس المساعدة للسيد "خوليو" Julio Calatayud فوقع له وثيقة حسن السيرة والسلوك. كان الرجل، على اختلافه البين مع السيد "خوليو" فيما يتصل بآرائه وولاءاته، كثير الاحترام لأفكار قريبه، غير مبال بفاشية ولده "نيستور" Néstor متسامحا مع مواعيد استماع قريبه خفية إلى "راديو إسبانيا الوطنية" في نشراته الإخبارية، أو في خطبه الرنانة بصوت الجنرال "كييبو دي يانو" Quipo de LLano (1875-1951). وعندي أن الرجل كان يفقه جوهر الصراع الدائر يومها، ويدرك خلفياته ومقاصده ؛ فلم يكن يعتبر أن السيد "خوليو" من أطرافه ولا من صناعه، بل بالأحرى من ضحاياه. وأغلب الظن أن هذا هو ما حدا به لكي يساعده، فيوقع له تلك الشهادة؛ مؤكدا في قرارة نفسه، أن الرجل طيب السيرة، فلم يعهد منه شر، وأنه حسنها، إذ لم يعرف عنه أنه سعى في إذاية أحد، فلم لا يبذل له من المساعدة، كما بذلها له النقابي الجمهوري، أو الطبيب الشيوعي وجميعهم يعرفون كل الخير عن الرجل على الرغم من اختلافهم معه، وعدم استلطافهم إياه؟
وكما أبرزت الرواية ما عليه الأمور من تسامح وتعاطف، على الرغم من الاختلاف النفسي والشخصي والسياسي والثقافي بين النقابي والطبيب والتاجر، هكذا أبرزت حالات من الانسجام بين أطراف هم في الأصل مختلفون، متنافرون. لقد مضت إلى تصوير ما هي عليه الأوضاع من نزوع إلى التآلف والتواؤم رغم آفات الحرب، وشناعات السياسيين وخصوماتهم، وتصميم العسكر على تسلم مقاليد السلطة على جثث إخوانهم، ودسائس الكنيسة وتحالفاتها السرية والعلنية في الداخل والخارج. انظر إلى انسجام الجمهوري مع الشيوعي، والفلانخي مع الجمهوري، ورجل الدين مع العلماني، والإسباني مع الأجنبي الفرنسي والإيكواتورياني، والمنحل أخلاقيا بالملتزم دينيا...كل ذلك تراه حاضرا في جميع مناطق الرواية، إما عن صدق، أو بتظاهر خشية افتضاح الأمر كما كان الشأن مع أساتذة الأكاديمية التجارية Academia Comercial الـّتي كان أحدهم عنصرا من "الطابور الخامس"، ينقل الأنباء العسكرية لخصوم الجمهورية من المتمردين، و إحداهم راهبة كانت رئيسة دير حاق به الخراب مع بدء الحرب، والآخر كان رساما كاريكاتوريا سابقا في العاصمة مدريد لم يسلم من سخريته رموز الجمهورية وأقطابها قبيل الثامن عشر من يوليوز 1936. لم يكن يعكر انسجام هؤلاء إلا صوت القصف الجوي الـّذي كانت تتعرض له يومها بلنسية من لدن الطائرات الحربية لـ"إسبانيا الأخرى"، أو صوت رصاصة استقرت في رأس أحد الذين تم الاحتفاء بهم فمضوا بهم إلى "النزهة"(***). أما ما عدا ذلك، فكل الناس إخوة، خلا شيعة هذا الحزب أو ذاك، أو باستثناء عصبة هذه النقابة أو تلك. كان الكل يعيش في انسجام تام، أو هذا على الأقل ما كانوا يتوقون إليه، رغم قساوة الحرب وتناقضاتها المأساوية، وصورها البشعة من موت كموت الجدة "كرمن" Carmenودفنها دون طقوس دينية تليق بكرامتها الاعتقادية، وخذلان كخذلان المساعد "أوروتيا" لمستخدمه السيد "خوليو" حين وجدها فرصة سانحة لتفجير جام حقده الدفين عليه، ووشاية كوشاية بواب العمارة "ليثاردو" Lisardo بمن يشم منهم رائحة "الخيانة" دون انتباه إلى جوهر وظيفته كحارس مؤتمن على أسرار البيت. و في تقديري، إنه رغم الافتعال الـّذي يمكن أن يكون قد تقصده المؤلف في "المنطقة الحمراء"، حين رسم حالة من الانسجام والتآلف والتوادد بين "سكانها"؛ مما يمكن أن يكون عيبا فنيا عند الناقد الأدبي، أو كذبا تاريخيا عند المؤرخ، إلا أنه من الوجهة الفكرية، وحتى السياسية، يظل هذا الافتعال صوت الحق الـّذي ينبغي أن يعلو على أصوات التنابذ والتنافر والتقاتل، الـّتي تعصف بأمة من الأمم، فترديها قتيلة كان لم تغن بالأمس.
وفي نظري إن أمر "التسامح" و "الانسجام" كما صح لي استخلاصهما من رواية "المنطقة الحمراء"، يمثلان "إسبانيا جديدة"، ويرمزان إلى إسبانيا موعودة، ويطمحان إلى إسبانيا غير مألوفة، ينبغي أن يعيشها أهلها؛ تلك الإسبانيا الـّتي طالما بشر بها جيل 98 ، كـ"غانيفيت" Ganivet (1865-1898) في "الإيدياريوم الإسباني" El idiarium español و"مستقبل إسبانيا" El porvenir de España وجيل 14 ، كـ"أورتيغا إي غاسيت" Ortega y Gasset (1883-1955) في "تأملات الكيخوطي"Meditaciones del Quijote و"إسبانيا اللافقرية" España invertebrada ، و"لاين إنترالكو" Lain Entralgo (1908-1999) في "إسبانيا كمشكلة" España como problema ... وغيرهم كثير.
ولعل إحدى الغايات الـّتي كانت تطمح إلى تحقيقها الرواية المذكورة، هي التبشير بهذه الإسبانيا الجديدة، عبر التأكيد على وجود قيمتين أساسيتين في استقرار أي مجتمع وسعادته، الانسجام بين عناصره من جهة، والتسامح بين مكوناته من جهة ثانية. وفي هذا نجحت رواية "المنطقة الحمراء"، لأنها اقتدرت على تبيان أن إسبانيا بجميع أطيافها، ليست إلا وجودا واحدا؛ سواء في "المنطقة الحمراء" أو في "المنطقة الوطنية". وأقدر أن "فيرناندو فيزكايينو" كان يرمي إلى القول إن "المنطقة الحمراء" هي المنطقة الـّتي ينبغي للإسبان عدم الاقتراب منها؛ لأنها منطقة التعصب، ومنطقة التنابذ، ومن ثم فمن الواجب الحذر والتيقظ حتـّى لا تتكرر أخطاء التعصب، وآفات التنابذ كتلك الـّتي ساقت إسبانيا إلى مصير كمصير الثامن عشر من المرارة عام 1936، فعاشت بسببها حربا غير أهلية أو "غير متحضرة" incivil -كما نعتها "كارلوس روخاس" Carlos Rojas مرة- وذاقت عقبها ألوانا من الديكتاتورية والفاشية ما شهدتها في تاريخها من قبل.
قراءة في أوراق الحرب الأهلية الإسبانية (2)
"المنطقة الحمراء" والوعد بـ"إسبانيا جديدة"
من المفروض أن تكون الحرب الأهلية "خفيفة الوطئ" على أصحابها إذا كان لا بد من أن يتحاربوا. ولكنها عمليا وواقعيا غير كذلك، ولا يمكن أن تكون كذلك. إنها حرب "شديدة الوطئ" على أهلها، وأحيانا حتـّى على جيرانهم.(*) و ما تنطوي عليه من تناقض (بين "الحرب" و "الأهل") لا يدع مجالا للتردد في أنها غير أهلية، بل حرب بين طرفين لا قرابة بينهما؛ لأن الأهل إذا نهضوا إلى حرب، فمع غرباء أعداء لهم أرادوا بهم شرا فردوهم عنهم وحموا عن بغيهم ما لهم من مال وسيادة وكرامة. أما الأهل، فيتحالفون معهم حتـّى يجدوهم في جانبهم ليشدوا من عضدهم وقت الحاجة في الحرب مع الغرباء، أو إذا ألمت بهم نكبة من نكبات الطبيعة.
ولكن مجرى الرغبات وتدفق الأهواء الإنسانية هو غير خيرية المثال واستقامة الأخلاق. وهذا التاريخ نفسه يشهد كم من الأهل قاموا إلى السلاح، ثم فضوا نزاعاتهم بقوته، فكان بينهم الغالب والمغلوب. ولهذا فلا وجود لما يسمى بـ "حرب أهلية" إلا بداع استكبار حدوثها، واستفظاع أهوالها. إنها، على العكس من ذلك، حرب "غير أهلية"؛ لأنها تقوم بين أناس أصبحوا غرباء على بعضهم البعض في "بيتهم" ساعة أمسكوا عن الحوار، وأطلقوا العنان للسلاح. إن الـّذي يحكم "أهل البيت" الواحد هو الحب لا الحرب. ولكن ما من حرب أهلية ساد الحب بين أهل بيتها، بل عصفت بهم الكراهية، وشطرهم الحقد شطرين أو أكثر. وهذا شأن كل حرب أهلية تقوم بين الأهل، وداخل بيتهم، ومنها "الحرب الأهلية الغير الأهلية" guerra civil incivil (أو الحرب الأهلية الغير المتحضرة) كما يسميها "أونامونو" Unamuno (1864-1936) و الـّتي قامت بين الإسبان والإسبان، وجرت وقائعها داخل إسبانيا، واشتعل فتيلها من مستعمراتها في المغرب. إنها حرب غير أهلية لأنها قامت بين أعداء كفوا أن يكونوا أهلا متى قاموا إلى السلاح ليحلوا "مشكلة لفظية": من الحق إلى جانبه؟ وأيهم يمتلك المشروعية إلى صفه؟ فانتهى بهم الأمر إلى مغلوبين وغالبين، مهزومين ومنتصرين. لقد حلوا مشكلتهم تلك بكثير من التعصب وبقليل من التسامح؛ فانساقوا إلى حرب من أشرس الحروب وأقساها إنسانيا وبشريا وفكريا في تاريخ البشرية، لم يشفوا من جراحها إلى الآن. وما زال منهم من يطالب بـ"الإنصاف"، وغيرهم ينادي بالحفاظ على "الذاكرة"، والآخرون يتنادون بكشف "الحقيقة" قبل أي شئ آخر. ولهذا سيظل موضوعها، على المستوى الشخصي والإنساني، منبعا لكثير من الذكريات والأحاسيس والأفكار والرؤى والمغازي والعبر، ما طال الزمن بذكرها، وردد التاريخ صداها؛ سواء لأهلها من الإسبان، أو لغيرهم ممن شهدوا معهم بعض فصولها، أو طعموا طائفة من ثمارها، أو تهيأت لهم أسباب الاطلاع على الأبحاث الـّتي تمت على هديها، أو الأدب الـّذي كتب بوحيها. وهو، بالمناسبة، كثير يضاهي ما ُكتب حول غيره من الأحداث العظام الـّتي شهدتها إسبانيا، فطبعت ماضيها القريب، وأثرت في حاضرها الراهن، وأرخت بظلالها على مستقبلها المنظور.
من هذا الأدب الكثير، الـّذي تمخض عن الحرب "الغير الأهلية" الإسبانية، رواية "المنطقة الحمراء" Zona roja لـ"فيرناندو فيزكايينو كاساس" Fe
ando Vezcaíno Casas . والنسخة الـّتي بين يدي الآن هي النسخة الصادرة في طبعتها الثانية ببرسلونة عن دار "بلانيتا" Planeta عام 1986 ضمن سلسلتها "فابولا" Colección Fábula.
تدخل "المنطقة الحمراء" صميم الحرب عند أحد طرفيها، والمتعلق بالجانب الجمهوري، أو ما دأب على تسميته مجازا بـ"المنطقة الحمراء"، أو باطلا بـ "الشيوعية" كما هو الشأن لدى أدبيات الجانب الآخر؛ الجانب الـّذي سمى نفسه ادعاء بـ"إسبانيا الوطنية"، فصار يزعم أنه الوحيد المدافع عن "الوحدة الوطنية"، و المنافح عن "الدين المسيحي"، و المحافظ على "القدر الإسباني الموحد"؛ استثمارا للحمية الدينية، واستعداء للوجدان الكاثوليكي على الجمهوريين. "المنطقة الحمراء" رواية تصور حياة بعض المراهقين الذين أصبحوا رجالا في مدينة إسبانية هي بلنسية، وفي "حرب أهلية"-يا للتناقض- هي "الحرب الأهلية الإسبانية" لأعوام 1936-1939، وذاقوا فيها مرارة الحرب، وخبروا فيها ألوان الوجود الإنساني، من حب وكراهية وخيبة أمل وخذلان وجوع ومكر. الشخصية الأساسية في الرواية هو "الراوي" نفسه، الفتى "إدواردو" Eduardo -والرواية بكيفية من الكيفيات سيرة محدودة لحياته وحياة من يعرفهم من قرابته أو من معارفه من مبتدأ الحرب إلى مغادرة أسرته إسبانيا إلى فرنسا بحرا عن طريق أليكانتي.
أكيد أن الرواية تمتلئ بمعان متعددة، ومن الممكن قراءتها قراءات مختلفة، حسب زوايا النظر وطبيعة المقاصد الـّتي يتخيرها القارئ. وحيث أن اهتمامي في هذه الرواية، وعموم النصوص المتعلقة بالحرب الأهلية الإسبانية، ينصب على استخلاص السمات العامة للفكر الإسباني في منعطف حاسم كالذي دخلت فيه إسبانيا عام 36 وما بعده، فإني سأركز على جملة أمور أهمها على الأقل أمران، الأمر الأول هو فكرة "التسامح"، والأمر الثاني هو فكرة "الانسجام" أو "التواؤم". لم هذا الاختيار؟ الجواب هو أن فكرة "التسامح" و "الانسجام" من الأفكار الفلسفية الخطيرة الـّتي وجدت لها في الأرض السياسية الإسبانية ألوانا من التطبيق، إما بالسلب في حالة التنابذ، أو بالإيجاب في حالة التسامح. وعليهما ستبنى كثير من النظريات التفسيرية لـ"مشكلة إسبانيا" في صيغتها الجديدة لدى عديد من المفكرين والفلاسفة أمثال " خوسي لويس أرانجورين" J. Luis Aranguren (1909-1996)، و "خوليان مارياس" Julian Marías (1914- ). إنهما الفضيلتان اللتان غابتا عن المشهد الإسباني فحضرت فيه "رذيلتان" هما التعصب والتنابذ، فغلبت الثانية الأولى، واستقر لها الحال حتـّى منتصف السبعينات. ومع تأكيدي على هذا الجانب، إلا أني أحب أن أذكر، إذا كان لا بد من ذكر شئ عن الجانب الفني في القول الروائي من باحث يعنى بالبنى الفكرية أكثر من عنايته بالبنى الفنية، أن هذه الرواية أفلحت في شد مركز حواسي، وسيطرت على كامل وجداني بتواتر أحداثها "المنسابة" في تناثرها إلى نهاياتها المعلومة؛ والتي ليست، في الحقيقة، إلا بداية لوعد جديد بحياة جديدة، قوامها "التسامح" و"التواؤم" فأين موضعهما إذن؟
تكشف الرواية عن كثير من الحالات الـّتي يرين فيها الانسجام على التنافر، ويتغلب فيها التسامح على التعصب. يقع ذلك في أكثر من مشهد رغم أن الحرب أصلا كانت بين متنافرين في الظاهر، منسجمين في الباطن، ولكن كلاهما اختارا جانب "التعصب"، وسعيا إلى حسم "تنافرهما" بوساطة العنف. وعلى سبيل المثال، حالة ذلك النقابي القديم والجمهوري الصلب السيد "لورينتي" Lorente المنتسب إلى "الحزب الجمهوري المستقل"؛ فقد قدم هذا الرجل المساعدة لأب الراوي الفرانكاوي الهوى، والفاشي النزعة، مرتين، المرة الأولى من أجل الحصول على جواز السفر له ولأسرته- ومنهم الراوي- قصد مغادرة إسبانيا إلى فرنسا، والمرة الثانية حين سعى لأجل فك القيود، التي وضعها "أوريتيا" Urrutia لصالح النقابة الثورية، عن متجره. كان هذا الجمهوري يعطي الدليل على أن البسطاء لا ينبغي أن يِِِؤِخذوا بجريرة غيرهم من "المعقدين" من الساسة والمتسيسين، وأن "المثال" الـّذي يسعون إليه في دنيا الواقع، ربما حققه هؤلاء البسطاء بكدهم وشقائهم في صمت وتفان في العمل، ومن ثم فلا يليقن بمن يدعو إلى قيم العدالة والمساواة، ومنها أحزاب "الجبهة الشعبية" يومئذ، أن يشتط في تطبيق قراراته عليهم، لأنهم لم يسلبوا مال أحد، ولم يظلموا أحدا، بل الراجح أنهم هم الذين ظـُلموا سلب مالهم بالباطل.
المثال الآخر نجده لدى ذلك الطبيب الشيوعي الـّذي كان يزور أسرة الراوي ويقدم لها خدماته الطبية؛ فقد "زكى" "دون دومينغو" Don Domingo أب الراوي حين وقع له شهادة حسن السيرة و السلوك، وكتم عن السلطات الجمهورية حقيقة انحيازه إلى القوات المتمردة عليها، وولائه لها، ونصحه بإخفاء كل مظاهر التدين من بيته، وصرف عنه زيارة غير متوقعة لبعض الكتائب المتعطشين لسفك الدماء. وفي ظني، كان هذا الطبيب بصنيعه، كمن يدرك أن السيد "قلعة أيوب" ليس يميل إلا لما يعتقده صدقا وحقا من دين مسيحي، وعقيدة كاثوليكية، واحتفال طقوسي بالأقانيم والمقدسات، وأن انحيازه إلى الخنرال "مولا" Mola (1887- 1937) أو الخنرال "فرانكو" Franco (1892-1975)، ليس إلا انحيازا إلى أمل بانعتاق إسبانيا من نير أناس لا يقيمون للدين اعتبارا؛ فقد رآهم يقتلون رجال الدين، وشهدهم يحرقون فوق رؤوسهم الكنائس، وعاينهم وهم يدمرون تحت أرجلهم الأديرة والخلوات، ومن ثم فالقوات الوطنية هي قوات مؤمنة ومسيحية جاءت تخلص إسبانيا من تسلط "الروس الملاحدة"، وأذنابهم من "الألوية الحمراء" كما كانت تحرص الدعاية الحربية على تفصيله يومها(**). وإذا كان هناك من مسؤول عن حيف "التدين" فهو رجال الدين الذين يكتنزون الذهب والفضة، ويعدون الناس بالخلاص في الحياة الآخرة، ويهونون عليهم سوء العيش في الحياة الدنيا. فلماذا إذن لا يزكي الرجل في سيرته وهي سيرة أسلافه وأجداده، ولا يوقع له وثيقة يبلغ بها مأمنه فيتخذها وسيلة للعيش في مكان آخر لا يؤذي فيه أحدا ولا يؤذيه أحد؟
المثال الثالث مع ذلك القريب المسمى "بيبي بويغ" Pepe Puig ذلك المثقف الجمهوري الـّذي بذل نفس المساعدة للسيد "خوليو" Julio Calatayud فوقع له وثيقة حسن السيرة والسلوك. كان الرجل، على اختلافه البين مع السيد "خوليو" فيما يتصل بآرائه وولاءاته، كثير الاحترام لأفكار قريبه، غير مبال بفاشية ولده "نيستور" Néstor متسامحا مع مواعيد استماع قريبه خفية إلى "راديو إسبانيا الوطنية" في نشراته الإخبارية، أو في خطبه الرنانة بصوت الجنرال "كييبو دي يانو" Quipo de LLano (1875-1951). وعندي أن الرجل كان يفقه جوهر الصراع الدائر يومها، ويدرك خلفياته ومقاصده ؛ فلم يكن يعتبر أن السيد "خوليو" من أطرافه ولا من صناعه، بل بالأحرى من ضحاياه. وأغلب الظن أن هذا هو ما حدا به لكي يساعده، فيوقع له تلك الشهادة؛ مؤكدا في قرارة نفسه، أن الرجل طيب السيرة، فلم يعهد منه شر، وأنه حسنها، إذ لم يعرف عنه أنه سعى في إذاية أحد، فلم لا يبذل له من المساعدة، كما بذلها له النقابي الجمهوري، أو الطبيب الشيوعي وجميعهم يعرفون كل الخير عن الرجل على الرغم من اختلافهم معه، وعدم استلطافهم إياه؟
وكما أبرزت الرواية ما عليه الأمور من تسامح وتعاطف، على الرغم من الاختلاف النفسي والشخصي والسياسي والثقافي بين النقابي والطبيب والتاجر، هكذا أبرزت حالات من الانسجام بين أطراف هم في الأصل مختلفون، متنافرون. لقد مضت إلى تصوير ما هي عليه الأوضاع من نزوع إلى التآلف والتواؤم رغم آفات الحرب، وشناعات السياسيين وخصوماتهم، وتصميم العسكر على تسلم مقاليد السلطة على جثث إخوانهم، ودسائس الكنيسة وتحالفاتها السرية والعلنية في الداخل والخارج. انظر إلى انسجام الجمهوري مع الشيوعي، والفلانخي مع الجمهوري، ورجل الدين مع العلماني، والإسباني مع الأجنبي الفرنسي والإيكواتورياني، والمنحل أخلاقيا بالملتزم دينيا...كل ذلك تراه حاضرا في جميع مناطق الرواية، إما عن صدق، أو بتظاهر خشية افتضاح الأمر كما كان الشأن مع أساتذة الأكاديمية التجارية Academia Comercial الـّتي كان أحدهم عنصرا من "الطابور الخامس"، ينقل الأنباء العسكرية لخصوم الجمهورية من المتمردين، و إحداهم راهبة كانت رئيسة دير حاق به الخراب مع بدء الحرب، والآخر كان رساما كاريكاتوريا سابقا في العاصمة مدريد لم يسلم من سخريته رموز الجمهورية وأقطابها قبيل الثامن عشر من يوليوز 1936. لم يكن يعكر انسجام هؤلاء إلا صوت القصف الجوي الـّذي كانت تتعرض له يومها بلنسية من لدن الطائرات الحربية لـ"إسبانيا الأخرى"، أو صوت رصاصة استقرت في رأس أحد الذين تم الاحتفاء بهم فمضوا بهم إلى "النزهة"(***). أما ما عدا ذلك، فكل الناس إخوة، خلا شيعة هذا الحزب أو ذاك، أو باستثناء عصبة هذه النقابة أو تلك. كان الكل يعيش في انسجام تام، أو هذا على الأقل ما كانوا يتوقون إليه، رغم قساوة الحرب وتناقضاتها المأساوية، وصورها البشعة من موت كموت الجدة "كرمن" Carmenودفنها دون طقوس دينية تليق بكرامتها الاعتقادية، وخذلان كخذلان المساعد "أوروتيا" لمستخدمه السيد "خوليو" حين وجدها فرصة سانحة لتفجير جام حقده الدفين عليه، ووشاية كوشاية بواب العمارة "ليثاردو" Lisardo بمن يشم منهم رائحة "الخيانة" دون انتباه إلى جوهر وظيفته كحارس مؤتمن على أسرار البيت. و في تقديري، إنه رغم الافتعال الـّذي يمكن أن يكون قد تقصده المؤلف في "المنطقة الحمراء"، حين رسم حالة من الانسجام والتآلف والتوادد بين "سكانها"؛ مما يمكن أن يكون عيبا فنيا عند الناقد الأدبي، أو كذبا تاريخيا عند المؤرخ، إلا أنه من الوجهة الفكرية، وحتى السياسية، يظل هذا الافتعال صوت الحق الـّذي ينبغي أن يعلو على أصوات التنابذ والتنافر والتقاتل، الـّتي تعصف بأمة من الأمم، فترديها قتيلة كان لم تغن بالأمس.
وفي نظري إن أمر "التسامح" و "الانسجام" كما صح لي استخلاصهما من رواية "المنطقة الحمراء"، يمثلان "إسبانيا جديدة"، ويرمزان إلى إسبانيا موعودة، ويطمحان إلى إسبانيا غير مألوفة، ينبغي أن يعيشها أهلها؛ تلك الإسبانيا الـّتي طالما بشر بها جيل 98 ، كـ"غانيفيت" Ganivet (1865-1898) في "الإيدياريوم الإسباني" El idiarium español و"مستقبل إسبانيا" El porvenir de España وجيل 14 ، كـ"أورتيغا إي غاسيت" Ortega y Gasset (1883-1955) في "تأملات الكيخوطي"Meditaciones del Quijote و"إسبانيا اللافقرية" España invertebrada ، و"لاين إنترالكو" Lain Entralgo (1908-1999) في "إسبانيا كمشكلة" España como problema ... وغيرهم كثير.
ولعل إحدى الغايات الـّتي كانت تطمح إلى تحقيقها الرواية المذكورة، هي التبشير بهذه الإسبانيا الجديدة، عبر التأكيد على وجود قيمتين أساسيتين في استقرار أي مجتمع وسعادته، الانسجام بين عناصره من جهة، والتسامح بين مكوناته من جهة ثانية. وفي هذا نجحت رواية "المنطقة الحمراء"، لأنها اقتدرت على تبيان أن إسبانيا بجميع أطيافها، ليست إلا وجودا واحدا؛ سواء في "المنطقة الحمراء" أو في "المنطقة الوطنية". وأقدر أن "فيرناندو فيزكايينو" كان يرمي إلى القول إن "المنطقة الحمراء" هي المنطقة الـّتي ينبغي للإسبان عدم الاقتراب منها؛ لأنها منطقة التعصب، ومنطقة التنابذ، ومن ثم فمن الواجب الحذر والتيقظ حتـّى لا تتكرر أخطاء التعصب، وآفات التنابذ كتلك الـّتي ساقت إسبانيا إلى مصير كمصير الثامن عشر من المرارة عام 1936، فعاشت بسببها حربا غير أهلية أو "غير متحضرة" incivil -كما نعتها "كارلوس روخاس" Carlos Rojas مرة- وذاقت عقبها ألوانا من الديكتاتورية والفاشية ما شهدتها في تاريخها من قبل.
اترك تعليقا: